معايير الشعرية
في كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي
د.سليمان الطعان*
تأتي أهمية هذه الدراسة من أنها تبحث في الأسس التي اعتمدها ابن سلام
في كتابه "طبقات فحول الشعراء"، وتحاول تقديم تحليل مفصل لأسباب تقديم بعض
الشعراء أو تأخير مرتبتهم في الطبقات، وإغفال ذكر شعراء آخرين. وقد حظي
كتاب ابن سلام بعناية الدارسين والباحثين قديماً وحديثاً, ولكننا نعتقد أن
مجال القول ما يزال متسعاً لكتاب هو من الكتب الأولى التي عالجت القضايا
النقدية تنظيراً وتطبيقاً, لما فيه من أصالة الرؤية وعمقها واتساعها, وذلك
ما يجعله قابلاً لإعادة القراءة والدراسة من حين إلى آخر.
حياته وآثاره:
محمد بن سلاّم بن عبيدالله بن سالم، أبو عبدالله البصري، ولد بالبصرة في
سنة 139 هـ، وقدم بغداد فأقام بها حتى وفاتـه سنة 232 هـ. روى عنه أحمد بن
يحيى ثعلب، وأبو حاتم، والرياشيّ، والمازني، والزياديّ، وأحمد بن حنبل
وابنه عبدالله.
وضع الزبيدي ابن
سلام في الطبقة الخامسة من اللغويين البصريين، التي تضم إلى جانبه:
عبدالرحمن بن عبدالله ابن أخي الأصمعي، وأبا نصر، ورفيع بن سلمة. وذكر صاحب
الفهرست أن له عدداً من الكتب، هي: كتاب الفاصل في ملح الأخبار والأشعار،
وكتاب بيوتات العرب، وكتاب طبقات الشعراء الجاهليين، وكتاب طبقات الشعراء
الإسلاميين، وكتاب الحلاب وأجر الخيل. وزاد السيوطي كتاباً آخر هو "غريب
القرآن".
إن حركة التأليف في
الحقبة الزمنية التي عاش فيها ابن سلام، التي عرفت بعصر التدوين، لم تكن
الكتب فيها أكثر من رسائل قليلة عدد الصفحات، لا ما يتبادر إلى أذهاننا من
مدلول كلمة "الكتاب" في وعينا المعاصر. ولذلك فالراجح أن هذه الكتب ذات
صفحات قليلة تعالج موضوعاً واحداً، وهو ما يتضح من أسمائها.
وذكر الخطيب البغدادي في ترجمة ابن سلام ما يفيد أنه كان من القدرية،
وأن الحديث لا يؤخذ عنه لهذا السبب، أما الشعر فتجوز روايته عنه. ومن
الروايات المتصلة بحياته أنه في عام اثنين وعشرين ومئتين اعتلّ "علة شديدة
فما تخلّف عنه أحد، وأهدى إليه الأجلاء أطباءهم وكان ابن ماسويه ممن أهدي
إليه، فلما جسّه ونظر إليه قال له: ما أرى من العلة كما أرى من الجزع!
فقال: والله ما ذاك لحرص على الدنيا مع اثنتين وثمانين سنة، ولكن الإنسان
في غفلة حتى يوقظ بعلة، ولو وقفت بعرفات وقفة وزرت قبر رسول الله r وقضيت
أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتدّ علي من هذا قد سهل".
ولسنا بصدد الحديث عن حياة ابن سلام وجوانبها المختلفة, ولكن يبدو أن
عمره المديد أتاح له سعة اطلاع على كثير من القضايا والمشكلات النقدية في
عصره, وأنه كان على احتكاك شديد بالحياة الفكرية والخلافات العقدية.
معالم النقد قبل ابن سلام:
إذا استعرضنا الحركة النقدية قبل ابن سلام بقليل من الإيجاز نجد أنها
كانت تدور في مجال الانطباعية التي لا نخلص معها إلى حكم مستقر واضح. فكل
ما نلقاه أحكام ذاتية ربما لم تكن مفهومة إلا لدى صاحبها الذي أطلقها,
ناهيك أنها أحكام تأتي على هيئة عبارات مستمدة من الحياة البدوية وأدواتها،
فحين " تحاكم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل
السعدي إلى ربيعة بن حذار الأسدي في الشعر، أيهم أشعر؟ فقال للزبرقان: أما
أنت فشعرك كلحم أسخن لا هو أنضج فأكل ولا هو ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت
يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر نقص
البصر، وأما أنت يا مخبل فإن شعرك قصّر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم،
وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها فليس تقطر ولا تمطر".
واحتكم امرؤ القيس وعلقمة الفحل إلى أم جندب، فقال امرؤ القيس:
فللساق ألهوبٌ وللسوطِ درّة
|
وللزجرِ منه وقعُ أهوجَ مِنْعبِ
|
وقال علقمة:
إذا ما ركبْنا لم نُخاتِلْ بجنّةٍ
|
ولكن ننادي من بعيدٍ ألا اركبِ
|
ففضلت
أم جندب علقمة على زوجها؛ لأن فرس امرئ القيس كليل عاجز لا يجري إلا بعد
أن يضربه، على خلاف فرس علقمة الذي لم يحتج للإهاجة. وكذلك حين قدم عبدالله
بن قيس الرقيات على عبدالملك فمدحه بقوله:
يأتلق التاج على مفرقه
|
على جبين كأنه الذهب
|
فقال عبد الملك: لقد مدحت مصعب بن الزبير بأحسن من هذا حين قلت:
إنما مصعبٌ شهابٌ من اللـ
|
ـه تجلّتْ عن وجههِ الظلماءُ
|
والفرق بين البيتين شاسع، فلم يصف عبدالله بن قيس الرقيات عبدالملك بن
مروان بأكثر من وجود تاج الملك على رأسه. والتاج رمز للسلطان والجبروت،
بعيد عما يطلبه عبدالملك من الصفات الدينية التي يريد من خلالها اكتساب
قيمة معنوية، على خلاف مدح مصعب الذي يضفي عليه الشاعر الصفات المعنوية
والدينية، مصدراً إياها بالأداة "إنما" التي تشير إلى أن ما بعدها من
الأمور المقررة التي لا تحتاج إلى جدال.
ويتضح من هذه الأمثلة أن النقد العربي بقي مدة طويلة يدور في مجال
الانطباعية والأحكام الجزئية التي تستخرج من المفاضلة بين بيت وبيت، أو
شاعر وآخر، وأنه نموذج يجمع بين النظرة التركيبية والتعميم والانطباع
الكلي، دون اللجوء إلى التعليل والتفسير.
ولكن علينا أن نلتمس العذر للنقد العربي، لأن البيئة الشفوية لم تكن
تسمح للنظرات النقدية الثاقبة أن تتسع أكثر في مجال الحكم والتعليل، إذ إن
تطور الأحكام النقدية ذات المنشأ العقلي يحتاج إلى تراكم المعارف النقدية،
وهو أمر لم يتحقق إلا مع انتشار الكتابة والتأليف.
تلك كانت حالة النقد القديم قبل ابن سلام الذي عاش على تخوم عالم شفوي،
واستطاع أن يجمع الأحكام المتناثرة هنا وهناك، ويجعلها ضمن نظريته في تصنيف
الشعراء، وهي نظرية الطبقات.
مفهوم الطبقة:
تدل أكثر معاني مادة "طبق" في لسان العرب على تماثل شيئين، ومنه قيل:
تطابقَ الشيئان إذا تماثلا وتساويا، وسمّوا كل ما غطى شيئاً "طبقاً"، لأنه
يغطيه حتى يكون مماثلاً له. وسموا أيضاً مراتب الناس ومنازل بعضهم فوق بعض
طبقات. ومن هنا فإن الطبقة تعني القوم المتشابهين في صفة من الصفات.
ويعتقد الأستاذ محمود شاكر – رحمه الله – أن ابن سلام لم يرد باصطلاح
"الطبقة" ما يتبادر إلى الذهن من معنى المنزلة أو المرتبة، ولم يرد أيضاً
ما أراده غيره في زمانه وبعد زمانه في كتب ألفوها وسموها "الطبقات"، وجعلوا
الطبقات فئات مرتبة على أصول القبائل، أو على مساكن العلماء في المدن، أو
بحسب السنين، وإنما المراد بالطبقة أن هؤلاء الشعراء أشعر العرب في مذهب من
مذاهب الشعر، أو نهج من مناهجه، أو ضرب من ضروبه. ويورد الأستاذ شاكر نصاً
للقاضي محمد بن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة"، يقول فيه: "انتهى علم أصحاب
رسول الله r إلى ستة نفر من الصحابة رضي الله عنهم: عمر بن الخطاب، وعلي
بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، فهؤلاء طبقات
الفقهاء. وأما طبقات الرواة فستة نفر: أبو هريرة، وأنس، وجابر بن عبدالله،
وعبدالله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وعائشة...".
معايير تصنيف فحول الجاهلية:
إذا كان محمود شاكر لا يعتقد أن تصنيف ابن سلام للشعراء جاء استناداً
إلى المقدرة الشعرية، فما السبب الذي يضع فيه ابن سلام الأربعة المتقدمين
من شعراء الجاهلية في الطبقة الجاهلية الأولى، والثلاثة الكبار في العصر
الإسلامي في الطبقة الأولى من فحول الإسلام؟ وقد أشار محمد زغلول سلام إلى
حقيقة الطبقة، حين صرح بأن ابن سلام يذهب في أكثر طبقاته إلى ترتيب الشعراء
حسب المقدرة الفنية أو الكفاءة والشاعرية.
ولم يكن اصطلاح الفحولة من ابتداع ابن سلام، ولكنه اصطلاح وضعه الأصمعي
الذي اتبع سنة الخليل بن أحمد الفراهيدي في استعارة الألفاظ البدوية ووضعها
بجانب الاصطلاحات النقدية التي بدأت تتشكّل آنذاك. يقول الخليل في وصف
عمله: "رتبت البيت من الشعر ترتيب البيت من بيوت الشَّعر – يريد الخباء –
قال: فسميت الإقواء ما جاء من المرفوع في الشعر والمخفوض على قافية
واحدة... وإنما سميته إقواء لتخالفه، لأن العرب تقول: أقوى القائل إذا جاءت
قوة من الحبل تخالف سائر القوى...". وسيكون لهذا الوصل بين الحياة البدوية
والاصطلاح النقدي أثر كبير في توجيه العلماء اللاحقين نحو استعارة الألفاظ
البدوية ونقلها إلى ميدان النقد.
وهكذا سار ابن سلام على نهج الأصمعي الذي جعل الشعراء فريقين: فحلاً وغير
فحل. فالأعشى وعمرو بن كلثوم والمهلهل وعروة بن الورد وكعب بن زهير وابن
مقبل وعمرو بن أحمر الباهلي ليسوا جميعاً من الفحول. وأما الحويدرة فلو قال
خمس قصائد مثل قصيدته العينية لكان فحلاً، ومثله معقر بن حمار البارقي
فإنه يلتحق بالفحول لو قال خمساً أو ستاً، غير أن هذا العدد يصل إلى عشرين
قصيدة عند أوس بن مغراء الهجيمي، وأما كعب بن سعد الغنوي فإنه ليس فحلاً
إلا في المرثية. على حين يضع الأصمعي عنترة بن شداد والزبرقان بن بدر وخفاف
بن ندبة في قائمة أشعر الفرسان، ويلحق بهم في هذه القائمة زيد الخيل
الطائي.
فالفحولة تقع على النقيض
من اللين، وتعني التفرد الذي يتطلب غلبة صفة الشعر على صفات المرء الأخرى.
ويظهر من هذا التعريف أن الفحولة تعرّف بالسلب، أي بما ليست هي عليه،
بمقارنتها مع اللين الذي يعني التوقف عن رواية أشعار القبائل التي لم تحارب
في الجاهلية، انطلاقاً من فرضية الأصمعي أن الشعر نكد بابه الشر، وأنه إذا
دخل في الخير ضَعُف.
وليس من
شك في أن مقاييس الأصمعي في تصنيف الشعراء لا تستند إلى أسس متينة، ناهيك
أنها تضع الشعراء في فئتين، الفحول وغير الفحول، وأنها تمثل لنا اليوم
طفولة النقد حين بدأ محاولة البحث عن مجال محدد يمارس المشتغلون فيه
نشاطهم. ويبرز لديه هذا الضمور في المقاييس النقدية من خلال وجود تصنيفين
لا يعدوهما الشعراء مطلقاً، مع ما فيهما من جمود وصرامة.
ويذهب الدكتور إحسان عباس إلى أن الفحولة صفة عزيزة تعني التفرد الذي
يتطلب غلبة صفة الشعر على كل صفات أخرى في المرء، فحاتم الطائي يوضع في فئة
الأجواد ولكنه ليس فحلاً، وكذلك أشباه عنترة وزيد الخيل فإنهم فرسان
يقولون شعراً. وتتطلب الفحولة أيضاً عدداً معيناً من القصائد تكفل لصاحبها
التفرد، فالقصيدة الواحدة كمرثية كعب بن سعد الغنوي لا تجعل صاحبها فحلاً،
ويتفاوت هذا العدد فهو خمس قصائد أو ست أو عشرون.
وينقل ابن رشيق نصاً عن الأصمعي يوضح فيه كيف يصبح الشاعر فحلاً، يقول
الأصمعي: "لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلاً حتى يروي أشعار العرب ويسمع
الأخبار ويعرف المعاني وتدور في مسامعه الألفاظ، وأول ذلك أن يعلم العروض
ليكون ميزاناً له على قوله، والنحو ليصلح به لسانه وليقيم إعرابه، والنسب
وأيام الناس ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب وذكرها بمدح أو بذم".
وإذن، فإن ثمة شروطاً ليصبح الشاعر فحلاً، أن يمتلك حافظة جيدة تمكنه من
حفظ أشعار العرب وروايتها، وأن يلم بأخبار الناس، وكذلك عليه امتلاك ثروة
لفظية واسعة تساعده على طرق المعاني المختلفة. ثم إن هنالك شروطاً أخرى
أولها العروض الذي يستقيم به الوزن، والنحو الذي يستقيم به الكلام عامة،
وعلى الشاعر إذا أراد أن يكون فحلاً معرفة مناقب القبائل ومثالبها،
ليُضمّنَها في شعره بمدح أو بذم، مما يعني أن الشاعر الفحل له موضوعان
أساسيان هما المدح والهجاء.
وقد
ضمت الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية: امرأ القيس والنابغة الذبياني وزهير
بن أبي سلمى والأعشى. ويعتمد ابن سلام في تقديمه لهؤلاء الشعراء على آراء
النقاد والقدامى دون أن يضيف إليها أي جديد، إذ يذكر "أن علماء البصرة
كانوا يقدمون امرأ القيس بن حجر، وأهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن أهل
الحجاز يقدمون زهيراً". أما النابغة الذبياني فيظهر أن هنالك إجماعاً على
تقديمه على سائر الشعراء منذ العصر الجاهلي، حين جُعل حكماً على الشعراء في
سوق عكاظ.
ولن نكون مغالين إذا
قلنا: إن ابن سلام يتعصب لأهل البصرة، لأنه يجعل علماء البصرة يقدمون امرأ
القيس بن حجر، بينما يقدم أهل الكوفة لا علماؤها الأعشى، وكذلك يقدم أهل
الحجاز زهيراً على الشعراء الآخرين. ومن جهة ثانية، فإن ابن سلام في الطبقة
الأولى يحاول إرضاء المناطق الجغرافية المتنوعة التي تفضل شاعراً بعينه،
وتجعله في المرتبة الأولى، بوضع هؤلاء الشعراء جميعاً في الطبقة الأولى من
الفحول، وقد رأينا من قبل أن الأصمعي يخرج الأعشى من هذه الدائرة.
فإذا تحولنا إلى أسباب تقديم هؤلاء الشعراء وجدنا من أسباب تقديم امرئ
القيس أنه سبق الشعراء إلى تشبيهات وصور فنية تبعه فيها الآخرون، كالبكاء
في الديار واستيقاف الصحب، وتشبيه النساء بالظباء والبيض، والخيل بالعقبان
والعصي، ويضاف إلى هذا كله أنه جدد في طريقة القول الشعري حين فصل بين
النسيب والمعنى، وأن شعره قريب المأخذ.
فأول معيار من معايير الفحولة مرتبط بقدرة الشاعر على طَرْق موضوعات
جديدة، وابتداع صور فنية تفتح أفق الإبداع أمام الشعراء الآخرين. ومن جهة
ثانية يشير اصطلاح "قرب المأخذ" بحسب تفسير المحقق له إلى أن الشعر قبل
امرئ القيس كان متصلاً بموضوعات بعيدة عن الحياة اليومية، وأنه كان عسير
الفهم، في إشارة خفية إلى بدايات الشعر العربي وما اكتنفها من غموض مصادره
وموضوعاته.
وأما كون النابغة
الذبياني من الطبقة الأولى فلأنه من بين الشعراء "أحسنهم ديباجة شعر،
وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأن شعره ليس فيه تكلف. والمنطق على
المتكلم أوسع منه على الشاعر، والشاعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي".
قد يبدو أمر العروض والقوافي والبناء مقبولاً لوجود قيود صوتية تحتم على
الشاعر اتباعها، على الرغم من اعتقادنا أن الوزن والقافية وكل القيود
الأخرى لا تشكل عائقاً أمام الشاعر الذي يسقط أي بيت لا يتلاءم ووزن قصيدته
أو قافيتها. ولكن علينا أن نتذكر أننا ما نزال عند تخوم عالم شفوي، يشكل
فيه الإيقاع المتجانس والحلى الصوتية الأخرى مطلباً ينبغي على الشاعر أن
يأخذه بالحسبان. ولكن ديباجة الشعر ورونق الكلام وجزالة البيت مصطلحات غير
واضحة الدلالة، ولعلها كانت تدل على صفات محددة لدى ابن سلام، غير أنه لم
يستطع أن يفيها حقها من الدرس والتأصيل.
وأما أهل النظر فقدموا زهيراً لأنه كان "أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف،
وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح،
وأكثرهم أمثالاً في شعره".
فإذا
كانت حصافة الشعر تعني – كما يرى المحقق – جودة الرأي وإحكامه، فإننا هنا
بإزاء معيار أخلاقي في تقديم الشاعر، وربما انتقل هذا المعيار من مواقف
زهير الشعرية فيما نشب من حروب ونزاعات كان هو داعية إلى السلام فيها. وقد
كان عند ابن سلام وعي مبكر أن تجربة زهير بن أبي سلمى المفارقة لموضوع
الشعر الجاهلي الأساسي: الحرب، تجعله في الطبقة المتقدمة من شعراء
الجاهلية.
ولكننا لا نعدم إلى جانب
هذا المعيار الأخلاقي معايير أخرى، هي كثرة الأمثال في الشعر والإيجاز
اللغوي أو التكثيف، والمبالغة التي سيكون لها شأن مهم في الدراسات النقدية
اللاحقة.
وأما الأمور التي جعلت
بعض الناس يقدمون الأعشى فهي كثرة الأوزان وطول القصائد وطرق مجموعة
متنوعة من الفنون الشعرية كالمدح والهجاء والوصف. وتعني المعايير الصوتية
التي يتخذها ابن سلام أن الشاعر قادر على نظم الشعر في مجموعة واسعة من
الأوزان، مثلما يعني طول القصائد قدرة شعرية أكبر لدى الشاعر من أولئك
الذين لا يمتد بهم نفسهم الشعري كثيراً. وأما الفنون الشعرية المتعددة أو
الموضوعات الشعرية المتعددة من مدح وهجاء ووصف فتشير إلى أن الشاعر لا يختص
بفن شعري واحد، أو موضوع يلازمه دائماً، الأمر الذي قد يدل على محدودية
العالم الشعري وضيقه، ذلك أن الاتساع في العالم الشعري يؤدي إلى سعة واضحة
في الثروة اللغوية، أو لنقل إن وجود ثروة لغوية كبيرة لدى الشاعر سيقود -لا
محالة- إلى سعة العالم الشعري والفضاء الذي تتحرك فيه مخيلة الشاعر أو
الفنان بعامة.
تلك كانت أبرز
نقاط الفحولة لدى شعراء الطبقة الجاهلية الأولى، إلا أن ثمة معايير أخرى
تتصل بجانب اللاشعرية (غير الفحولة)، ينبغي على الشاعر الفحل أن يتجنبها في
شعره، وهي معايير تنخفض مرتبة الشاعر إذا جاءت في قصائده، وهي مقاييس
صوتية تشمل الزحاف والسناد والإيطاء والإكفاء (الإقواء). وقد أشار ابن سلام
إلى أن أحداً من شعراء الطبقة الأولى ومن أشباههم لم يقو إلا النابغة
الذبياني في بيتين له، أحدهما في قوله:
أمِن آلِ ميةَ رائحٌ أو مُغتدي
زعمَ البوارحُ أن رحلتَنا غداً |
عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوّدِ
وبذاك خبّرنا الغدافُ الأسودُ |
والآخر في قوله:
سقطَ النَّصيفُ ولم تُردْ إسقاطَه
بمخضّبٍ رَخْصٍ كأنّ بنانَهُ |
فتناولَتْه واتّقتْنا باليدِ
عَنَمٌ يكاد من اللطافةِ يعقدُ |
ونستشف
من هذه الإشارة إلى الإقواء في أثناء الحديث عن الطبقة الأولى أنه أشد
عيوب الشعر وأخطرها، وآية ذلك أن ابن سلام لا يلبث أن يسهب في شرح هذه
العيوب، مبتدئاً بالزحاف الذي يراه أهونها، ومنتهياً بالحديث عن الإقواء،
فهو ينتقل من أهون العيوب إلى أشدها.
معايير تصنيف الطبقات الأخرى:
يرى طه إبراهيم أن فكرة الطبقة الأولى توحي بطبقات أخرى تليها، وأن
المصادفة في أن تتكون الطبقة الأولى من أربعة شعراء حملت المؤلف على أن
تكون كل طبقة تالية لها مؤلفة من أربعة شعراء. وقد يبدو في الأمر بعض
الحقيقة أو الصواب، ذلك أن ابن سلام يقرر في أثناء ذكر شعراء الطبقة
الثانية أن أوس بن حجر نظير الأربعة المتقدمين، إلا أنه وضعه في هذه
الطبقة، لأنه اقتصر على أربعة في كل واحدة.
إننا لا نرغب أبداً في محاكمة ابن سلام من منظورنا المعاصر، فذلك إجحاف
بحق ناقدنا لا ترتضيه روح العلم وموضوعية البحث، إلا أن النظر إلى ما قام
به انطلاقاً من الأسس التي بنى عليها كتابه والمصادرات التي وضعها تكشف
بوضوح مقدار الاضطراب الذي يكتنف تصنيفه، وعدم الاتساق والانسجام في
طروحاته النقدية، فأن يكون الشعراء موزعين على طبقات أمر قد نقبله، ولكن أن
يكون ثمة كم عددي في كل طبقة يلغي ما زاد عن هذا الكم إلى الطبقة التالية –
كما في حالة أوس بن حجر – فهذا حكم شاذ وغريب.
وتغيب المعايير التي وجدنا ابن سلام يقدم أفراد الطبقة الأولى بسببها في
تقييم شعراء الطبقات اللاحقة، ويبرز لدينا مجموعة معايير تبدو في أغلبها
مبهمة، ذلك أن "المصطلح" قاصر عن أداء المعنى بدقة. فالحطيئة وضع في عداد
الطبقة الثانية لأنه "متين الشعر، شرود القافية"، وأما أفراد الطبقة
الثالثة فأبو ذؤيب كان "شاعراً فحلاً، لا غميزة فيه ولا وهن"، والشماخ كان
"شديد متون الشعر، أشد أسر كلام من لبيد وفيه كزازة، ولبيد أسهل منه
منطقاً"، وأما هذا الأخير فهو "عذب المنطق، رقيق حواشي الكلام".
إنها مجموعة آراء انطباعية لعلها غير مفهومة إلا عند صاحبها، بالإضافة
إلى أن هناك قصوراً في التعبير عن أداء الفكرة قصوراً تاماً. وعلى الرغم من
المحاولات الكثيرة التي يقوم بها المحقق في شرح ما استغلق من هذه
العبارات، تسعفه في ذلك خبرة عميقة بالتراث وطرق التعبير عند القدماء، إن
"المصطلح" يبقى في دائرة الإبهام، فمتون الشعر – كما يرى المحقق – يراد بها
عباراته وألفاظه وصياغته، وأسر الكلام بناؤه وتركيبه.
وما يقوم به العلامة محمود شاكر ليس سوى شرح لمصطلحات لم تصل إلى أن تكون
مصطلحات بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وآية ذلك أنها تفتقر إلى الدقة
والتجريد، وأن النظرة الذاتية لدى ابن سلام جعلته يتجنب رد هذه الآراء إلى
مقياس موضوعي شامل.
ومن
المقاييس المهمة في إلحاق الشاعر بالفحول ووضعه في طبقة معينة مقياس الكم،
وهو مبدأ اعتمده ابن سلام متابعاً فيه الأصمعي. فقد وضع في الطبقة الرابعة
طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص وعدي بن زيد، وذكر أن موضعهم مع الأوائل،
وإنما أخل بهم قلة شعرهم عند الرواة. وكذلك فعل في الطبقة السابعة حين وضع
فيها سلامة بن جندل وحصين بن الحمام والمتلمس والمسيب، ونبه على أن قلة
شعرهم هي سبب تأخيرهم. فعلى الرغم من تأكيد ابن سلام أن الشعر العربي قد
ضاع جزء لا يستهان به منه, فإنه وضع هؤلاء الشعراء في هاتين المرتبتين لقلة
شعرهم المتداول، ولم تشفع لهم جودة أشعارهم الباقية في التقدم في سلّم
الطبقات.
وإلى جانب هذه الأسس
"النقدية" التي استند إليها ابن سلام في ترتيب طبقاته، نجد أن هناك أسساً
أخرى لا تتصل بالشعر. فالجانب الاجتماعي لا يغيب حين يحكم ابن سلام على
الشعراء، وخصوصاً ما يتصل بالقيم القبلية ومكانة المرء في مجتمعه أو
قبيلته. فالمكانة الاجتماعية لها أثر لا ينكر في وضع الشاعر في هذه الطبقة
أو تلك، أو وضعه بين الفحول، فسويد بن كراع العكلي كان شاعراً محكماً، ورجل
بني عكل، وذا الرأي والتقدم فيهم، وعمرو بن شأس "كان ذا قدر وشرف ومنزلة
في قومه".هذا إلى أن ابن سلام يأخذ برأي الجمهور أو المتلقين، ولا يتكئ إلى
مقاييس ثابتة دائماً، فإنه يضع خداش بن زهير في الطبقة الخامسة، وينقل في
تعليل ذلك رأياً لأبي عمرو بن العلاء يذهب فيه إلى أنه أشعر في قريحة الشعر
من لبيد، وأن الناس أبوا إلا تقدمة لبيد.
وإذن فإن ابن سلام لم يكن مستقلاً برأيه كل الاستقلال، بل خضع لشروط
الجمهور ورغباته في بعض الأحيان. وليس ذلك غريباً عن شخص انحصر عمله – كما
يرى د. إحسان عباس – في العودة إلى المبادئ القديمة ومنحها شكلاً جديداً،
من خلال توسعة بعضها وتغيير مدلول بعضها الآخر، في محاولة جادة لخلق نظام
جديد لدراسة الشعراء.
ونلاحظ أن
معايير الفحولة في الطبقة الأولى يجري أغلبها وفق أسس موضوعية إذا ما
قورنت بمعايير الطبقات اللاحقة، فامرؤ القيس هو أول من سبق الشعراء إلى صور
شعرية جديدة، وزهير بن أبي سلمى أقدر على إيجاز القول والمبالغة فيه،
والأعشى أكثر الشعراء عروضاً وقصائد طويلة، على حين أن معايير الفحولة في
الطبقات الأخرى مبهمة، وتعتمد على أسس لا تنتمي إلى الشعر، كالمكانة
الاجتماعية، والعمر المديد، وآراء عامة الناس.
يتحول ابن سلام بعد عرض الطبقات العشر، وتبيان الأسس التي تميز كل شاعر
عما سواه وتجعله في طبقته التي هو فيها، إلى طبقة أصحاب المراثي التي تضم
متمم بن نويرة والخنساء وأعشى باهلة وكعب بن سعد الغنوي. وتظهر الخنساء
الشاعرة الوحيدة في كل طبقات ابن سلام، مما يعني أنها تخطت حاجز الفحولة
الذي رسمه المؤلف وانضمت – وهي الأنثى – إلى قائمة الفحول الخاصة بالشعراء
وحدهم, لأن أهميتها الشعرية جعلت من المستحيل تخطيها في هذا المجال أو
إغفال ذكر اسمها.
وأما طبقة
شعراء القرى العربية فتضم خمسة شعراء من المدينة وتسعة من مكة وخمسة من
الطائف وثلاثة من البحرين. وعلى هذا يكون المجموع اثنين وعشرين شاعراً،
أشهرهم حسان بن ثابت وقيس بن الخطيم من المدينة، وعبدالله بن الزبعرى وضرار
بن الخطاب من مكة، وأمية بن أبي الصلت وأبو محجن الثقفي من الطائف،
والمثقّب العبدي والممزّق العبدي من البحرين. ويشير ابن سلام إلى أن أشعر
هذه الطبقة حسان بن ثابت، وأن كثيراً من الشعر حمل عليه لما تعاضهت قريش
واستبت.
وتأتي طبقة شعراء يهود
في نهاية هذا القسم، وتضم ثمانية شعراء أشهرهم السموأل بن عادياء وكعب بن
الأشرف وسعية بن الغريض. وليس في هذه الطبقة ما يشير إلى مسوغ يمكن أن يوضع
الشعراء في هذه الطبقات استناداً إليه، إلا أن المقاييس الواضحة هنا هي
الموضوع الشعري والمكان والديانة.
ولئن كان من الصواب أن مقاييس ابن سلام في قضية الموضوع والمكان والديانة
اعتباطية، لأنه يضع الشعراء في مراتب تبعاً لمعايير غير شعرية لا تبعاً
لقدراتهم الشعرية، فإن من الحق أنه لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن النظر
إلى الشعر من حيث هو فن جمالي يحقق المتعة المجردة عن أي رغبة لم يكن من
الأمور المفكر بها unthinkable في عصر ابن سلام، فترتيب الطبقات يخضع
لمقاييس غير شعرية، فالقضية الأولى هي قضية الموضوع الشعري، إذ جرى عزل
شعراء الرثاء عن الطبقات الأخرى، لأن الرثاء مختلف عن موضوعات الفحولة
كالهجاء والمدح والفخر، المرتبطة على نحو وثيق بقيم الجماعة القبلية. وكذلك
فإن الرثاء تعبير عن فاجعة أسرية، بحيث يبدو متعذراً مشاركة الآخرين
للشاعر في أحزانه الخاصة، إلا خسارة القبيلة لسيد من ساداتها أو فارس من
فرسانها. ومن ثم فإن وضع شعراء الرثاء في طبقة دال على حيز محدد يشغله هذا
الفن في الحياة الجاهلية.
وأما
قضية الدين فتبرز في اختيار ابن سلام مجموعة شعراء يهود، ووضعهم في طبقة
واحدة، على الرغم من غياب ما يسوغ مثل هذا التصنيف في الشعر نفسه، فلا نجد
في شعر هؤلاء ما يشير إلى انتمائهم الديني؛ إذ كل الموضوعات التي تحدثوا
عنها هي من صميم الحياة الجاهلية، ومتصلة بالقيم الجاهلية التي نجدها لدى
الشعراء كافة. ويشير هذا التمييز إلى نفوذ اليهود في الحياة الجاهلية
ومقدار المكانة التي حازوها في ذلك المجتمع, على خلاف المسيحيين الذين لم
يضع لهم ابن سلام طبقة, على الرغم من وجود عدد لا بأس به من هؤلاء الشعراء
في ذلك العصر.
وعلى خلاف
المقياس الديني نجد أن معيار المكان له ما يسوغه، فالحركة الشعرية الجديدة
التي ابتدأت بأبي نواس ووصلت إلى ذروتها مع أبي تمام فيما عرف آنذاك بقضية
الخصومة بين القدماء والمحدثين – ثارت على المسلمات في القصيدة القديمة
التي جعلها النقاد مثلاً ينبغي محاكاته والسير على طريقه عند كل الشعراء،
فأبو نواس ثار على الطريقة القديمة بالدعوة إلى إزاحة الطلل عن موقعه
المركزي في التراث الشعري، وإحلال موضوعات تتفق والذوق الحضاري الجديد. وقد
ارتبطت ثورته بالتمييز بين مكانين: عالم البداوة والطلل، وعالم الخمر
والحدائق، بحيث كانت لها أصداء لدى النقاد أنفسهم. وربما لا نغالي كثيراً
إن رأينا في هذه الثورة سبباً أساسياً دفع النقاد إلى التمييز بين الشعراء
الجاهليين والإسلاميين على أساس التنوّع الجغرافي.
ونجد هذه الأصداء القوية لأثر المكان وإسهامه في تكوين الشاعر من خلال
تقسيم شعراء القرى العربية بحسب المدينة التي يسكنونها، وإيراد أسماء شعراء
لم يقل أحد إنهم من المبرزين، ولا توجد لهم قصائد أو أخبار تدل على علو
كعبهم في هذا المضمار، وإغفال شعراء آخرين كان لهم إسهام واضح في حركة
الشعر، وكذلك لا نجد تأثيراً كبيراً للمكان في أشعار هؤلاء التي لا تختلف
عن بقية القصائد الجاهلية.
ويلوح لنا أن المكان أصبح وسيلة يفسر بها ابن سلام قلة الشعر في مكان
وكثرته في آخر، نقابل مثل هذا التعليل في حديثه عن قلة الشعر بالطائف وعمان
ومكة، لأن الشعر إنما يكثر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس
والخزرج.
معايير تصنيف فحول الإسلام:
لن يجد المرء اختلافاً كبيراً من حيث الشكل في ترتيب طبقات الشعراء
الإسلاميين، فالطبقات تظل عشراً، والشعراء أربعة في كل طبقة، خلا أن طبقات
شعراء القرى العربية وأصحاب المراثي والشعراء اليهود تغيب عن تصنيف شعراء
هذه الحقبة.
وثمة أمران
يسترعيان الانتباه في طبقات الإسلاميين، أولهما: وضع الشعراء الحجازيين في
طبقة خاصة بهم هي الطبقة السادسة المكونة من: عبدالله بن قيس الرقيات
والأحوص وجميل بثينة ونصيب. وثانيهما: استقلال الرجاز بالطبقة التاسعة،
وفيها: الأغلب العجلي وأبو النجم العجلي والعجاج وابنه رؤبة.
ولن نذهب بعيداً في تأويل جمع شعراء الحجاز في طبقة واحدة، إذ نستشف أن
هذه الطبقة مشابهة لطبقة شعراء القرى العربية في الجاهلية، إلا أن ثمة
أمراً يدعو إلى التساؤل، وهو إسقاط عمر بن أبي ربيعة من هذه الطبقة، وإغفال
ذكره إغفالاً تاماً في طبقات الشعراء جميعاً، وخصوصاً أنه من أكثر الشعراء
تجديداً وإثارة للجدل.
وفيما
يخص جمع الرجاز في طبقة واحدة، فإن هذا الأمر يحمل دلالة لا تقبل اللبس على
صعود هذا الفن الشعري في عصر بني أمية، على نحو لا يستطيع أن يتجاهله أحد،
ولا سيما ناقد مثل ابن سلام.
وإذا
أردنا الدخول إلى معايير الفحولة أو مقاييسها عند شعراء الإسلام، ونخص هنا
شعراء الطبقة الأولى، فإننا لن نجد مثل تلك الأحكام التي وجدناها عند
الحكم على تقديم شعراء الطبقة الجاهلية الأولى، فمثل تلك الأحكام غائبة
تماماً، أو تكاد تكون كالغائبة.
والواضح أننا لن نبتعد كثيراً عن الحقيقة حين نقرر أن للحياة السياسية
والصراع بين الأحزاب والفرق التي بدأت بالظهور، أثراً لا ينكر في تقدمة
جرير والفرزدق والأخطل والراعي، على غيرهم من شعراء العصر الأموي. فكثرة
الجدال والمناظرات بين أصحاب هذه الفرق لم يهيئ البيئة الثقافية لقبول فن
المعارضات فحسب، بل أسهم أيضاً في نشوء هذا الفن، بفتح آفاق الخصومة
والنقاش أمام الشعراء، عبر إحياء العصبية القبلية وإعطائها لبوساً سياسياً
يتناسب وتوجهات القبائل والفرق المختلفة.
والنتيجة المهمة في هذا المضمار أن السلطة السياسية سيكون لها تأثير لا
ينكر في توجهات الشعراء، وتقريب بعضهم وإزاحة آخرين، بغض النظر عن المقدرة
الشعرية، وسيستمر هذا التأثير حتى وقتنا الحاضر.
ولكن ما هي الأسباب التي تقدم بها هؤلاء الشعراء على غيرهم، إضافة إلى
النتيجة التي توصلنا إليها قبل قليل؟ إن بعض العلماء قدموا جريراً على
الفرزدق، انطلاقاً من نظرة جزئية إلى البيت الشعري دون القصيدة، ووفقاً
لهذه الرؤية يجري حصر الفن الشعري أو الموضوع الشعري في بيت واحد، والبحث
في قصائد الشعراء عن هذا البيت "المثال" الذي لا نظير له. وهكذا كانت بيوت
الشعر أربعة، فخراً ومديحاً ونسيباً وهجاء، وفي كلها غلب جرير.
وتنطبق هذه النظرة على سبب تقديم الفرزدق عند آخرين، فهو أكثر الثلاثة
بيتاً مقلّداً، أي بيتاً مشهوراً يضرب به المثل. فمن ذلك قوله:
فيا عجباً حتى كليبٌ تسبُّني
|
كأن أباها نهشلٌ أو مجاشع
|
إلا
أن جريراً من ناحية ثانية كان يجيد القول في موضوعات لم يحسن الفرزدق
القول فيها، لأن الفرزدق بقي مشدوداً في قصائده إلى الفخر بعشيرته ومكانتها
الرفيعة. وإذن، فالعالم الشعري عند جرير واسع يضم عدداً من الموضوعات التي
لا يجيدها الشعراء الآخرون.
ويلاحظ من آراء النقاد القدامى وتعليقاتهم أن الأخطل لم يكن بمكانة
الفرزدق وجرير، وأنه يأتي ثالثاً في هذه الطبقة، ولكن ربيعة تعصبت له
وأفرطت فيه. وهذا مؤشر واضح لا على صعود القبيلة في حياة الناس لعصر بني
أمية فحسب، بل على الدور الذي تقوم به العوامل غير الشعرية في بروز بعض
الشعراء وظهورهم على الساحة الثقافية. فكم شاعر ارتبط بقضية جليلة، أو مبدأ
سام، فارتقى في سلم الشعر بمقدار قداسة تلك القضية، أو نبل ذاك المبدأ,
وأخمل ذكر شعراء أكثر شاعرية منه؟؟!! وهو أمر لا تخلو منه آداب العالم
كلها.
لكن مقاييس تقديم شاعر
وتأخير شاعر آخر كانت تتحكم فيها قضايا أخرى، من أهمها النظرة التراتبية
إلى الفنون الشعرية المختلفة، وتقديم بعضها على حساب بعضها الآخر. إن
شاعراً مثل ذي الرمة يأتي في الطبقة الثانية، لأن العلماء بالشعر أجمعوا
"على أن الشعر وضع على أربعة أركان: مدح رافع، أو هجاء واضع، أو تشبيه
مصيب، أو فخر سامق، وهذا كله مجموع في جرير والفرزدق والأخطل، فأما ذو
الرمة فما أحسن قط أن يمدح، ولا أحسن أن يفخر، يقع هذا كله دوناً، وإنما
يحسن التشبيه فهو ربع شاعر".
فذو
الرمة الذي بقي يتغنّى بالصحراء لا يعد من الفحول، لأن هؤلاء لهم موضوعات
غير تلك التي يجيدها ذو الرمة. إنها الموضوعات التي يفضلها الذوق العام في
ذلك العصر، وهكذا يجري دائماً إزاحة عدد كبير من الشعراء عن الصف الأول
وتقديم آخرين مكانهم، لأن الموضوعات التي يتحدثون عنها لا تتناسب وتوجهات
الحياة إبان تلك المرحلة. فحين سأل ذو الرمة الفرزدق عن سبب عدم كونه من
الفحول، أجاب: يمنعك عن ذلك صفة الصحاري وأبعار الإبل. وما من شك في أن
بروز القبيلة ودورها في الحياة السياسية على وجه الخصوص كان ذا تأثير واضح
في هيمنة المثلث الشعري: جرير والفرزدق والأخطل على ساحة الشعر في العصر
الأموي.
فإذا مضينا في البحث عن
أسباب تقديم بعض الشعراء وتأخير بعضهم الآخر وجدنا المعايير المبهمة ذاتها
التي وجدناها من قبل، فالبعيث شاعر فاخر الكلام حر اللفظ، والقطامي رقيق
الحواشي، حلو الشعر.
أما شعراء
الطبقة الثالثة فكعب بن جعيل شاعر مفلق، وسحيم بن وثيل الرياحي شريف مشهور
الأمر في الجاهلية والإسلام، جيد الموضع في قومه، وكان الغالب عليه البداوة
والخشونة، وعمرو بن أحمر الباهلي صحيح الكلام كثير الغريب.
وفيما يتصل بتقييم شعراء النسيب فإن كثير عزة شاعر الحجاز في هذا الفن،
وإن أهل الحجاز ليقدمونه على كثير من الشعراء الذين قدمهم ابن سلام عليه،
إلا أن حظوظه بالعراق قليلة، إن ابن سلام يشير إلى أن مقاييس المناطق
الجغرافية قد تختلف في تقديم هذا الشاعر أو ذاك. لكنه لم يتعمق في دراسة
هذه الظاهرة، فاكتفى بنقلها على نحو حيادي. وواضح أن الحكم على الشعراء قد
انتقل من سوق عكاظ إلى المربد والكناسة، وأن العراق غدا الإقليم الذي يحق
له الحكم على الشعراء، وتمييز الجيد منهم من غيره.
ولعل تباشير قضية الصدق والكذب تطل في رأي ابن سلام بجميل بثينة الذي
كان صادق الصبابة، على النقيض من كثير عزة الذي كان يتقول ولم يكن عاشقاً.
ومن حقنا أن نسأل عن المقياس الذي اكتشف فيه ابن سلام كذب كثير وصدق جميل.
ويبدو أننا لن نحظى بمثل هذه الإجابة أبداً.
ولئن وجدنا معايير مثل: رقة الحواشي وحلاوة الشعر مما له اتصال بالمادة
الشعرية نفسها فإننا نجد مقاييس أخرى، مثل: الشرف لدى سحيم بن وثيل
الرياحي، والشجاعة لدى مزاحم بن الحارث العقيلي الذي كان أيضاً غزلاً
هجاءً، شديد أسر الشعر.
تلك
كانت أبرز نقاط تقديم الفحول الإسلاميين. وهي مقاييس تفتقر إلى كثير من
الموضوعية في أغلب جوانبها كما وجدنا ذلك عند الحديث عن فحول الجاهلية،
ويبدو بعض جوانبها مبهماً، يحول بيننا وبينها حجاب الذاتية، فابن سلام لم
يعن بتأصيل الأصول، وكان مرجعه في الاستحسان أو ضده إلى الذوق وحده. وكذلك
فإنه لا يبين قانوناً في النقد يعتمد عليه. إلا أنه ينبغي ألا يفهم من
الذاتية والذوق معنى الهوى المطلق، فالذوق قدرة على الحكم تتكون من الخبرة
الطويلة، وليس الفرق بين الذاتية والموضوعية في خلو الأولى من كل مقياس
مشترك، بل في أن الناقد الذي يحكم بذوقه لا يرجع إلى صورة مجردة للجودة أو
الرداءة، فالكلي مقترن عنده بالجزئي دائماً، وهو لا يفعل أحدهما عن الآخر
حين يحكم على الشعر.
إشكالية الطبقة في الفكر العربي:
لا نعرف على وجه الدقة أول من ألّف في الطبقات، فالأخبار التي نعرفها عن
تلك الفترة قليلة في هذا المجال. ولكننا نجد كتاباً لـ واصل بن عطاء
(131)هـ، هو طبقات أهل العلم والجهل، ذكره صاحب الفهرست. ونلفي الواقدي
207هـ يؤلف كتاباً في "الطبقات" ذكر فيه الصحابة والتابعين مرتبين بحسب
طبقاتهم. ويبدو أن تلميذه محمد بن سعد (230 هـ) قد حذا حذوه وسار في كتابه
على منهجه، إذ وضع كتابه "الطبقات الكبرى" في رجالات الحديث.
وتعني الطبقة في اصطلاح المحدثين: القوم المتعاصرين إذا تشابهوا في
السن، وفي الإسناد (الأخذ عن الشيوخ). فهي بمعنى كلمة جيل، مع مراعاة
الاشتراك في الأساتذة الذين يؤخذ عنهم الحديث. وقد قسم ابن سعد طبقاته
أقساماً متعددة، فجعل أهل الكوفة في تسع طبقات، وكذلك أهل البصرة، ووضع أهل
الشام في ثماني طبقات، وأهل مكة في خمس طبقات، وأهل اليمن في أربع طبقات.
وأفرد باباً خاصاً بالصحابيات.
ويخضع تقسيم هذه الطبقات لثلاثة أمور، أولها: القدم الزمني أو القرب من
عهد النبوة؛ إذ رتب ابن سعد أصحاب كل طبقة ابتداءً بكبار الصحابة، وثانيها:
الاشتراك في الأخذ عن الرواة, وثالثها: المنطقة الجغرافية التي يسكنها
راوي الحديث.
وربما لا يبدو
مستغرباً أن تكون بداية التصنيف في طبقات رجال الحديث، فقد أثرت مشكلات
العرب السياسية في الحديث، حين انتقلوا إلى الأمصار فظهر فيه الوضع، وقد
كان لزاماً تسمية رجال السند للتثبت من سلسلة الرواة أنفسهم، وهي تسمية لا
تقل عن أهمية المتن.
وقد حدث في
الشعر ما حدث في الحديث من تحريف ووضع وانتحال، الأمر الذي حدا بالنقاد
إلى تمييز الرواة، وفصل ما قاله الرواة عما قاله الشاعر نفسه. إلا أن
التصنيف في الطبقات داخل حقل الشعر اتجه إلى الشعراء لا الرواة.
وأمام هذا العرض التاريخي الموجز لقضية الطبقات، نجد صدق ما ذهب إليه
عبدالله الغذامي الذي رأى أن مصطلح الطبقات دخل منذ وقت مبكر إلى ثقافتنا،
وصار علامة جوهرية تؤلف فيها الكتب وتقام حولها المناقشات ويتمحور حولها
التفكير الثقافي، ولكن الغذامي سرعان ما يقلب الأمور رأساً على عقب، حين
يذهب إلى أن هذا المصطلح ارتبط ارتباطاً عضوياً بالشعر، ثم يغالي في أحكامه
النقدية فيقرر أن الطبقة الأرقى هي الأقدم، مما حسم الموقف ضد الحاضر
والمستقبل والشعبي والمؤنث.
وقد رأينا قبل قليل أن عنصر القدم لم يكن هو العنصر الحاسم في تمييز أصحاب
الطبقات، وإن كان ثمة موقف معارض للشعر المولد، أو الشعر الذي جاء بعد عصر
الاحتجاج. ويتجلى هذا الموقف في العودة إلى دراسة الشعر الجاهلي والأموي،
وإغفال الشعر العباسي أو المولد.
ويشير عبدالله الغذامي محقاً إلى أن الطبقة لا تقتصر على الشعراء، وإنما
تنسحب على الشعر أيضاً، ففن الرثاء يجري تصغيره لأنه لا يقال لرهبة ولا
لرغبة. بيد أن الغذامي يغفل الجوانب الاجتماعية في تقديم فن على آخر. فإذا
كان الشعر قد وضع على أربعة أركان هي المديح والفخر والهجاء والتشبيه فإن
هذه الرؤية تدل على أثر منظومة القيم القبلية والاجتماعية في الفن عامة
والشعر بخاصة، فالفخر يفترض فيه مسبقاً انتماء المفتخر إلى منزل رفيع
وقبيلة كبيرة تجعله ذا مكانة اجتماعية متميزة، تحقق له تفرداً على غيره من
الشعراء. وأما المدح فيتصل بمواقع السلطة والنفوذ، فكلما تركزت السلطة في
يد عدد من الناس ارتفعت وتيرة المدح. والعكس صحيح.
وهكذا فالتفريق بين الفنون الشعرية ينطلق من ارتباطها بالمراتب
الاجتماعية، فقد كانت الأنواع الأدبية أو الفنون الأدبية مرتبطة لدى
القدماء في شكلها ومضمونها وتصنيفها بالمتلقي، أي: مكانة المتلقي وموضعه في
البناء الاجتماعي.
ويربط
الدكتور حسين الصديق بين هذا التمييز ورؤية الكون في الثقافة العربية –
الإسلامية التي نجد في قمتها العقل الأول (الله)، والتي تتوزع فيها بقية
الكائنات على النحو الآتي: الإنسان الكامل، والإنسان، والحيوان، والنبات،
والعناصر الأربعة. ويعتقد الدكتور الصديق أن هذه الرؤية أثرت على نحو واضح
في البناء الاجتماعي ومؤسساته الثقافية، من خلال علاقة جدلية بين الجانبين،
فتوزع المجتمع على طبقات، أعلاها طبقة الخاصة التي تتشكل من السلطان
والوزراء والقادة العسكريين، تليها الطبقة الوسطى المكونة من التجار
والصناع، وتقع بعد ذلك طبقة العامة التي شكلت غالبية الناس.
وكان
جورجي زيدان ذكر أن الناس في العصر الإسلامي انقسموا طبقتين: طبقة الخاصة
وطبقة العامة، وأن طبقة الخاصة تفرعت إلى خمس شعب، وهي: الخليفة ثم أهله ثم
رجال الدولة ثم أرباب البيوتات ثم توابع الخاصة. وتشعبت طبقة العامة إلى
طبقات بحسب الثقافة والنسب والمقدرة المالية والمنصب، بل وصل الأمر – كما
يذكر الجاحظ – أن الرشيد جعل للمغنين مراتب وطبقات على نحو ما وضعهم أردشير
بن بابك أنوشروان، فكان إبراهيم الموصلي وإسماعيل أبو القاسم بن جامع
وزلزل في الطبقة الأولى، وسليم بن سلاّم وعمرو بن الغزال ومن أشبههما في
الطبقة الثانية.
لقد هيمن
التصنيف والضبط المنهجي المحكم على الحياة الثقافية لدى العرب في عصر
التدوين، وبرزت نتيجة لهذا المناخ الفكري إشكالية الطبقات التي تمحور حولها
تفكير عدد غير قليل من علماء اللغة والحديث والأدب. وقد تأثر ابن سلام
بهذا النمط من التفكير فاستلهم هذا المفهوم وحاول تصنيف الشعراء على أساسه،
استناداً إلى مقاييس اتضح لنا جانب كبير منها في الصفحات السابقة. وكان
واضحاً أن هنالك عوامل غير شعرية أثرت في تقييمه، مثلما أن هناك عوامل
شعرية جمعها من أفواه الرواة والعلماء، ووضع الشعراء استناداً إليها في
طبقات متعددة.
ويتضح من هذا
الإصرار الشديد على الطبقة في مصنفات تلك المرحلة مقدار الأهمية التي حازها
هذا الموضوع في أوساط العلماء والباحثين، وقد كان لهذا التفكير أثر في
ظهور كتب الطبقات في مختلف علوم الثقافة العربية – الإسلامية, تلك المصنفات
التي بدأت تتوالى بالظهور في القرون اللاحقة, التي كان لها أثر كبير في
الضبط المنهجي لرجالات كل علم.
وبعد:
فقد حاولنا في هذا البحث معالجة المعايير النقدية التي اعتمدها ابن سلام
في كتاب "طبقات فحول الشعراء", فوقفنا من أجل ذلك عند ابن سلام نسباً وأسرة
وثقافة, وتطرقنا لطبيعة النقد الأدبي قبل ابن سلام. حتى إذا وصلنا إليه
تلمسنا معنى الطبقة عند من سبقه وعنده في كتاب الطبقات, وهنا فصلنا القول
في الأسس الجمالية في تحديد فحول الجاهلية وفي الطبقات الأخرى في الجاهلية
والإسلام. ووقفنا بعد ذلك عند إشكالية الطبقة في الفكر العربي.
المصدر : مجمع اللغه العربيه الاردنى
0 التعليقات:
إرسال تعليق